انتقلت المخابرات التركية إلى مقرها الجديد قبل ثلاث سنوات. وتلا رئيس “ديانت” (المؤسسة التي تسيطر على المساجد وتدفع رواتب الأئمة) صلاةً لمدة خمس دقائق لمباركة الافتتاح. ويتناقض إدراج زعيم “ديانت” رفيع المستوى وصلاته في سجل الدولة مع صورة تركيا التي تعود إلى قرون باعتبارها الدولة العلمانية الأكثر حزماً في العالم الإسلامي. وصعد الرئيس رجب طيب أردوغان وعشرات من كبار السياسيين وكبار القضاة وقادة الجيش والبحرية والقوات الجوية إلى المنصة للوقوف جنباً إلى جنب مع الجمهور. و سلط هذا الاحتفال الضوء على تحالف طويل الأمد للعالم الإسلامي: العلاقة بين ما يسمى ب “العلماء” والدولة. ففي الإسلام يعُد العلماء هم الأوصياء والناقلون والمفسرون للمعرفة الدينية، بما في ذلك العقيدة والقانون الإسلامي، ووفقاً لتقليد طويل يتم تربية العلماء في المؤسسات الدينية (المدارس). القرآن والسنة (الأحاديث الصحيحة) هي المصادر المكتوبة للشريعة الإسلامية التقليدية.
التطورات في العالم الإسلامي
تركيا هي واحدة من 50 دولة ذات أغلبية مسلمة تشكل ربع جميع البلدان في العالم. وفقاً للمعايير الرئيسية المستخدمة لتقييم درجة التحول الديمقراطي والتنمية الاجتماعية والاقتصادية في بلد ما، فإن أداء البلدان الإسلامية أسوأ من المتوسط العالمي، وعلى الرغم من أن 60 في المائة من جميع دول العالم ديمقراطية، إلا أن 14 في المائة فقط من الدول الإسلامية ديمقراطية. يبلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 9,100 دولار أمريكي في الدول الإسلامية، وعلى الرغم من عائدات النفط الكبيرة فإن المتوسط العالمي هو 13,200 دولار أمريكي. يبلغ متوسط العمر المتوقع في الدول الإسلامية 66 عاماً مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 69 عاماً، كما أن متوسط معدل وفيات الرضع في الدول الإسلامية أعلى (49) من المتوسط العالمي (34). وبينما يبلغ متوسط معدل الإلمام بالقراءة والكتابة في العالم 84 في المائة، بمتوسط تعليم يبلغ 7.5 سنوات، يبلغ متوسط معدل الإلمام بالقراءة والكتابة في البلدان الإسلامية 73 في المائة ومتوسط التعليم 5.8 سنوات.
الدين ككابح التنمية
وخص بيان الإسلام بالذكر ووصف الدين بأنه عقبة أمام التقدم. وهذه الحجة لديها ثلاث مشاكل رئيسية: أولاً: كان التقدم العلمي والاقتصادي للبلدان الإسلامية متفوقاً على تقدم أوروبا الغربية من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر، مما يثبت أن الإسلام والتقدم تعايشا لعدة قرون. ثانياً: حتى بعد القرن الثاني عشر استمرت المجتمعات الإسلامية في إنتاج كبار العلماء ومثلت مدناً مزدهرة مثل اسطنبول، على الرغم من أنها شهدت ركوداً نسبياً مقارنة بالقرون السابقة. وأخيراً: هناك اختلافات حالية داخل العالم الإسلامي من حيث الديمقراطية والتنمية، و لا يمكن تعريفه على أنه منطقة استبدادية ومتخلفة بالكامل.
الاستعمار كمصدر
يشير التفسير الثاني إلى الاستعمار الغربي، لكن حتى هذه الحجة مضللة: بدأ الركود العلمي والاقتصادي في العالم الإسلامي قبل فترة طويلة من الاستعمار الغربي الواسع النطاق الذي بدأ في القرن الثامن عشر. وشهدت العديد من البلدان غير الإسلامية في مرحلة ما بعد الاستعمار في آسيا وأمريكا اللاتينية التنمية و/أو التحول الديمقراطي بطرق لم تشهدها البلدان الإسلامية، مما يشير إلى أن الفشل من الماضي الاستعماري لم يكن حتمياً. وأخيراً، فإن التركيز على الاستعمار الغربي باعتباره السبب الرئيسي للتخلف يمنع البلدان الإسلامية من معالجة مشاكلها الأيديولوجية والمؤسسية.
من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، عمل هذان الجانبان على تأجيج كل من العلمانية المعادية للإسلام والمشاعر المعادية للغرب في البلدان الإسلامية. كما كان لها تداعيات سلبية في الدول الغربية، إما بتشجيع الميول المعادية للمسلمين أو السماح لأي تحليل نقدي للمجتمعات الإسلامية بأن يوصف بأنه “استشراقي” مع تحيز استعماري تجاه الشعوب غير الغربية.
الخلفية التاريخية
العصر الذهبي
شهدت المجتمعات الإسلامية تطوراً فكرياً واقتصادياً ديناميكياً بين القرنين الثامن و الحادي عشر. وكان المسلمون هم الذين علموا الأوروبيين الغربيين كيفية صنع الورق. وقدم المثقفون المسلمون في بغداد والعديد من المدن الأخرى مساهمات علمية رائدة في الرياضيات والبصريات والطب.
كانت إحدى السمات الرئيسية للعصر الذهبي الإسلامي هي درجة من الفصل بين العلماء الذين يمثلون المعرفة الإسلامية والتعليم والقانون والحكام السياسيين. بدأ هذا التقسيم مع تأسيس أول سلالة مسلمة وهي سلالة الأمويين (661-750). ومنذ ذلك الوقت وحتى منتصف القرن الحادي عشر عملت الغالبية العظمى من العلماء وعائلاتهم في وظائف غير حكومية، وخاصة في التجارة. وكان أولئك الذين يشغلون مناصب مثل القضاة أقلية بين العلماء. هذه الحقيقة تدحض الصورة النمطية الحديثة بأن الإسلام رفض بشكل أساسي الفصل بين الدين والدولة.
وبالنظر إلى بُعد العلماء عن الطبقة الحاكمة ووجهات النظر المعقدة للفلاسفة، كانت المجتمعات الإسلامية المبكرة متنوعة دينياً وفلسفياً. وساهم المسلمون الذين ينتمون إلى مختلف المدارس اللاهوتية والقانونية وكذلك المسيحيين واليهود واللاأدريين وغيرهم في التطور الاقتصادي والعلمي خلال هذه الفترة. و تميز العصر بالتسامح النسبي والعالمية.
بداية الأنهيار
بدأ تحالف دولة العلماء من منتصف القرن الحادي عشر في التطور في ما يعرف الآن بآسيا الوسطى وإيران والعراق. ومن الناحية الاقتصادية كان هناك تحول من الاقتصاد النقدي إلى نظام شبه إقطاعي حيث يوزع الحكام الإيرادات من الأرض على المسؤولين بدلاً من دفع رواتبهم نقداً. كما حدث تغيير هيكلي في الأوساط الدينية، حيث أصدر الخليفة العباسي القادر بالله عقيدة لتوحيد السنة المشكلة حديثا ضد الشيعة الإسماعيليين في أوائل القرن الحادي عشر، ومجموعة من اللاهوتيين العقلانيين المعروفين باسم المعتزلة، والمسلمين غير الممارسين. أما في السياسة فقد أسس السلاجقة (1040-1194) بالتحالف مع الخليفة العباسي والعلماء السنة، إمبراطورية تركز على الغزو العسكري.
انتشر تحالف دولة العلماء بين القرنين الثلنس عشر والرابع عشر الذي عززته مدارسها ونظام الإقطاع (تحت حكم الأيوبيين ثم المماليك) إلى سوريا وفلسطين ومصر. خلال هذه الفترة عزز الصليبيون والغزوات المغولية عن غير قصد تحالف العلماء والدولة لأنه في مواجهة الغزاة ومذابحهم، وطلب السكان المسلمون المساعدة من الأبطال العسكريين مثل صلاح الدين الذي هزم المسيحيين في القدس وأسس السلالة الأيوبية. حل المماليك محل الأيوبيين في وقت لاحق وصدوا المغول أمام القدس، وفازوا بتقدير السكان المسلمين.
أسس الحكام المسلمون ثلاث إمبراطوريات قوية على مدى القرون الثلاثة التالية: الإمبراطورية العثمانية ذات الأغلبية السنية، والصفويون ذات الأغلبية الشيعية، والمغول ذوي الأغلبية الهندوسية. هذه الإمبراطوريات بمثابة دليل على أن القوة العسكرية والجيوسياسية الإسلامية صمدت خلال قرون من الحروب الصليبية والغزوات المغولية ، ولكن لا يمكن قول الشيء نفسه عن الإنتاجية العلمية الإسلامية أو الديناميكية الاقتصادية. ويعزى التراجع في هاتين المنطقتين إلى حد كبير إلى هيمنة تحالف دولة العلماء وتهميشه للطبقات المثقفة والتجارية.
شهدت أوروبا الغربية في القرنين الخامس عشر و السادس عشر العديد من الثورات التنموية باستخدام ثلاث أدوات رئيسية المطبعة والبوصلة البحرية والبارود. ومع ذلك استخدمت الإمبراطوريات الإسلامية البارود فقط بسبب تركيزها العسكري. لقد مرت ثلاثة قرون قبل أن يتحولوا إلى تكنولوجيا الطباعة لأن الإمبراطوريات الإسلامية لم يكن لديها طبقة مثقفة تقدر الأهمية العلمية للمطبعة، ولا طبقة تجار تفهم الإمكانيات المالية ل “رأسمالية الطباعة”. لم ير القادة العسكريون في الإمبراطوريات الإسلامية قيمة المطبعة ورأى العلماء أنها تهديد لاحتكارهم للتعليم.
وكانت النتيجة ظهور فجوة في معرفة القراءة والكتابة بين أوروبا الغربية والعالم الإسلامي. بين القرنين الثامن والثاني عشر كانت أكبر المكتبات في المجتمعات الإسلامية تحتوي على مئات الآلاف من الكتب، في حين أن أكبر المكتبات في أوروبا الغربية لديها أقل من ألف. ومع ذلك انعكست مواقف المنطقتين مع ثورة الطباعة حيث تبنت المجتمعات الأوروبية هذه التكنولوجيا بسرعة بينما لم تفعل المجتمعات الإسلامية. على سبيل المثال في القرن 18 طبعت آلات الطباعة العثمانية حوالي 50000 نسخة من الكتب، بينما طبعت آلات الطباعة الأوروبية 1 مليار.
أزمة العلماء في الدولة العثمانية
تم حل الإمبراطورية المغولية في القرن 19من قبل الحكم الاستعماري البريطاني، في حين بدأت إيران تحكم من قبل سلالة قاجار الضعيفة واللامركزية. ظلت الإمبراطورية العثمانية القوة الإسلامية الكبرى الوحيدة بينما كانت معظم الدول الإسلامية مستعمرة من قبل القوى الأوروبية.
كان السلطان العثماني سليم الثالث الذي حكم من 1789 إلى 1807، مدركاً للحاجة إلى إصلاح المؤسسات لمواكبة المستويات الأوروبية للتنمية العسكرية والاقتصادية. لكن الإنكشارية ( قوته العسكرية النخبوية) كانوا يعارضون الإصلاح العسكري لدرجة أنهم تمردوا وأرسلوا سليم الثالث، ثم تم خلعه وقتله. انتظر السلطان الجديد محمود الثاني حتى تتوفر ظروف أكثر ملاءمة قبل إدخال الإصلاحات. وفي عام 1826 أمر وحدات الجيش الأخرى بمهاجمة ثكنات الإنكشارية بالمدفعية، فقتل الآلاف منهم وألغى محمود مؤسسة الإنكشارية تماماً. ونتيجة لذلك، فإن العلماء الذين قاوموا في السابق بفعالية ضد إصلاح السلاطين من خلال تحالفهم مع الإنكشارية فقدوا الآن ذراعهم القوية.
اكتسب محمود وبيروقراطيو بلاطه السيطرة التي يحتاجونها لتحديث الدولة العثمانية من خلال إلغاء الإنكشارية واستبدال العلماء. وفي عام 1839 أصدر السلطان العثماني والبيروقراطيون مرسوماً يضمن حماية “حياة وشرف وممتلكات” جميع الرعايا العثمانيين. وأطلقت سلسلة من السياسات الاصلاحات المعروفة باسم إصلاحات التنظيمات. في عام 1844 ألغى تغيير في القانون عقوبة الإعدام لأولئك الذين تخلوا عن عقيدتهم الإسلامية. في عام 1856 وعد مرسوم الإصلاح المواطنين غير المسلمين بالمساواة الكاملة وحرية الدين.
استولى البيروقراطيون على بعض المناصب العامة التي كان يشغلها العلماء خلال عملية الإصلاح هذه. وتعكس التطورات في التعليم بوضوح الانخفاض في مستوى التعليم الديني، حيث اعتٌبرت المدارس الدينية قديمة جداً من الناحية التربوية ومقيدة للغاية بسبب تفويضها للدراسات الدينية لدرجة أن الإصلاحيين العثمانيين اضطروا إلى إنشاء كليات جديدة تماماً على الطراز الغربي لتعليم الطلاب الممارسة العسكرية والحكم والدبلوماسية والطب والهندسة. كان العلماء لا يزالون مسؤولين عن المدارس، لكنهم فقدوا احتكارهم للتعليم. مع ظهور المحاكم والقوانين التجارية على النمط الغربي، تم أيضاً تقليص الوظائف القضائية والتشريعية للعلماء.
تابعت مصر إصلاحاتها الخاصة بالتغريب. وتم إرسال محمد علي باشا وهو ضابط عثماني من أصل ألباني، إلى مصر بعد فترة وجيزة من غزو نابليون في عام 1798. في عام 1805 و بعد بضع سنوات أصبح حاكماً لمصر. في عام 1811 دعا محمد علي قادة المماليك للاحتفال في قلعته في القاهرة وقتلهم قبل إرسال قواته عبر مصر للقضاء على بقية القوات المملوكية مُنهياُ قروناُ من حكمهم. كما قوض محمد علي العلماء من خلال مصادرة بعض أصول المؤسسات الدينية التي مولت المدارس الدينية، بما في ذلك الأزهر المركز الشهير للدراسات السنية. بعد أن قضى محمد علي على الحكام القدامى روج لتغريب الجيش والبيروقراطية والضرائب والطب والتعليم وأرسل الطلاب إلى دول أوروبا الغربية للتدريب. في عام 1818 وبناء على أوامر السلطان دمر جيشه أول دولة وهابية سعودية في شبه الجزيرة العربية. ومع ذلك انقلب لاحقاً ضد السلطان وهزم الجيش العثماني وأسس سلالة شبه مستقلة في مصر استمرت حتى عام 1953.
أدت إصلاحات الإمبراطورية العثمانية ومحمد علي إلى ظهور طبقة من المثقفين المتعلمين في الغرب في كل من الإمبراطورية ومصر. حاول هؤلاء المثقفون في الإمبراطورية العثمانية الذين يطلق عليهم “العثمانيون الشباب” إقامة ملكية دستورية. اعتلى عبد الحميد الثاني العرش بدعمها مقابل وعود سياسية، وشكل أول برلمان والذي أصبح أيضاً أول برلمان متعدد الأديان حقاً في بلد كبير. وعلى سبيل المثال شهدت بعض الدول الإسلامية إصلاحات بقيادة الدولة في القرن التاسع عشر وأنتجت بعض المثقفين، لقد ضعف التحالف التقليدي بين العلماء والدولة بشكل كبير. وأحرزت الإصلاحات بعض التقدم في الإمبراطورية العثمانية ومصر من حيث تحديث الجيش والنظام الضريبي والظروف الطبية والنظام المدرسي. ومع ذلك فإن هذه الجهود الإصلاحية في القرن التاسع عشر لم تساعد المسلمين في نهاية المطاف على “اللحاق بالغرب” من حيث التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
الإصلاحات غير مستدامة
كان هنالك ثلاثة أسباب رئيسية لفشل الإصلاحا. أولاً و على الرغم من تهميش العلماء إلى حد كبير وظهور طبقة فكرية مستقلة، إلا أن المشاكل الطبقية في العالم الإسلامي ظلت قائمة إلى حد كبير. لقد ملأ الحكام وبيروقراطيوهم الفراغ الذي خلفه العلماء. كان السلطان العثماني محمود والمصري محمد علي ومعظم خلفائهم حكاما مطلقين رفضوا تقاسم السلطة مع المؤسسات أو الطبقات الأخرى أثناء سن إصلاحات من أعلى إلى أسفل.
سيطر ثانياً هؤلاء الحكام المسلمون الإصلاحيون على الاقتصاد دون تشجيع تراكم رأس المال الخاص أو صعود البرجوازية المحلية بشكل كاف. وعدت بعض الإصلاحات القانونية بحماية الملكية الخاصة في الإمبراطورية العثمانية، ولكن في الممارسة العملية استمرت انتهاكات الدولة لحقوق الملكية. ازدهرت طبقة برجوازية، لكنها كانت بالكامل تقريباً نتاجاً لدعم القوى الأوروبية للتجار غير المسلمين. خلق هذا انعدام ثقة عميق بين الطبقة الحاكمة العثمانية والتجار غير المسلمين، الذين كان الكثير منهم مواطنين مزدوجي الجنسية في الإمبراطورية والدول الأوروبية.
في نهاية المطاف قوبلت جهود محاكاة الغرب بمعارضة سياسية ودينية. كانت المقاومة السياسية لهذه المحاكاة في الإمبراطورية العثمانية أقوى في ظل حكم عبد الحميد الذي اتبع سياسة “التحديث الإسلامي”. فمن ناحية حل عبد الحميد البرلمان، وهاجم العديد من المثقفين ووظف شيوخ العلماء والصوفيين في مناصب سياسية وطنية ودولية. من ناحية أخرى افتتح العديد من المدارس على الطراز الغربي وأسس السكك الحديدية. جاءت المعارضة الدينية الرئيسية للإصلاح من العلماء أنفسهم. في أواخر العهد العثماني كان العلماء لا يزالون جزءاً من الحكومة وكان لديهم حق النقض (الفيتو) على بعض القضايا، مثل نشر ترجمة تركية للقرآن.
يُتبع..
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.