أحمد الرمح: باحث وكاتب.
يتعلق هذا البحث العلمي بثقافة تعامل بعض المسلمين مع غيرهم من أبناء مجتمعهم؛ إذ يذهبون باتجاه القطيعة مع غير المسلم من أبناء المجتمع بحجج نصوص نُسبت زوراً وبهتاناً إلى الإسلام نتج منها فتاوى وثقافة شعبوية تتعارض مع المقاصد القرآنية؛ ففي كل مناسبة دينية أو اجتماعية نجد مثل هذه الفتاوى والثقافة تظهر من جديد لتدعو إلى حرمة مشاركة الآخرين في أعيادهم ومناسباتهم. يناقش هذا البحث تلك الفتاوى والثقافة ويهدمها من خلال منهج علمي يعتمده أصحاب الفتوى أنفسهم من خلال المحاور الآتية:
- النص الديني المعتمد في تلك الفتاوى وبيان التحريف فيه.
- مناقشة متن الحديث الذي يمنع التشاركية مع غير المسلمين وبيان بطلانه.
- قصة حديث نهي البدء بالسلام على الآخرين.
- الأدلة القرآنية والعلمية والعقلية على بطلان هذا الحديث المنسوب إلى النبي.
- لماذا أُعطي هذا الحديث العمومية وهو متعلق بحادثة مخصوصة ومن وراء ذلك؟.
- مناقشة سند الحديث المشكلة وبيان جملة العلل الموجودة فيه.
- لماذا تفرَّد أبو هريرة بإدراج المسيحيين في هذا الحديث؟.
- ثقافة المشاركة ثقافة قرآنية وثقافة القطيعة ثقافة عدوانية.
- النتيجة من البحث.
المدخـــــــــــــــــــــل
إن العدل هو جوهر الإسلام وغايته؛ ومخالفة نص ما لتحقيق العدل؛ أرقى دينياً وأخلاقياً وإنسانياً من إيقاع الظلم بذريعة الالتزام بالنص، وهذه قيمة سماويةُ الأخلاقِ؛ تخالف سلوكات يتمترس بها مَنْ يرى أنّ نصاً ما على علته يجب التمسك به والعمل استناداً إليه؛ حتى لو خالف تلك القيمة الإنسانية الأخلاقية وهدي السماء. فتثور ثائرة التراثيين لأنك سجلت موقفاً فحسب من نص ما مقابل حالة إنسانية هي جوهر رسالات السماء.
وكلما تناولنا بالنقد نصاً مشبوهاً أو مسيئاً إلى قيم السماء والإنسانية والعدل؛ أو فتوى تتعارض مع روح الإسلام ومقاصده؛ انبرى من يقدسون التراث للتشكيك في إيماننا وتفسيقنا وزندقتنا بدلاً من مناقشة الفكرة ذاتها وتصويبها. والأمثلة على تلك الحالات كثيرة. ولكنْ هناك نص نحتاج -ونحن نعيش عصر المواطنة وحقوق الإنسان والديمقراطية- إلى التوقف عنده ملياً.
نسمع بعض دعاة الفضائيات الدينية؛ وهم يرددون حديثاً منسوباً إلى رسول الله يتنافى مع القرآن الكريم؛ ويتعارض مع رسالة النبوة؛ رواه مسلم في صحيحه عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة يقول: لا تبدؤوا اليهودَ ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدَهم في طريقٍ فاضطروه إلى أضيقه.
هذا الحديث مخالف للدليل القرآني وهدي الرسول ﷺ وعندما نبحث فيه وندرسه من خلال (علم الحديث) يتبين لنا أنّ فيه عللاً في متنه وسنده. وكل مَنْ يعمل به اليوم إنما يشجع ثقافةَ القطيعة مع الآخر ممن يعيش معه في المجتمع؛ ويرفض ثقافة المشاركة التي هي أصل من أصول القرآن الكريم.
دراسة الحديث
عندما ندرس هذا الحديث ستتضح لنا علل كثيرة تشوبه؛ توجب علينا أن نوقف العمل به (حتى لو صح سنداً) لأنه يحكم على أجيال مستقبلية من دون ذنب اقترفته، ويُسيء إلى الآخرين بذريعة التمسك بهذا النص.
مناقشة مَتْن الحديث
متن الحديث يعاني اضطراباً كبيراً لأسباب عدّة هي:
1ـ إن عدم معرفة أسباب ورود الحديث النبوي تجعله موظفاً توظيفاً خارج الإطار الذي قيل بسببه، وهذا إشكال كبير لم يجرِ العمل عليه.
قبل غزوة الخندق التي وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة وقَّع أهل المدينة (مسلمون ومشركون ويهود) من خلال قبائلهم في السنة الأولى للهجرة عقداً اجتماعياً أُطلق عليه (صحيفة المدينة) من أهم نقاطه أن مجتمع المدينة مجتمٌع واحٌد، متكافٌل اجتماعياً، ومتعاون في ما بينه ضد أي عدوان خارجي.
عندما وقعت غزوة الخندق وحاصر المشركون المدينة وقعت خيانة ونقض لصحيفة المدينة من زعماء يهود بني النضير وهم من الموقعين على الصحيفة؛ وتعاونوا بوصفهم طابوراً خامساً مع محاصري المدينة، وحاولوا اغتيال رسول الله ﷺ الذي أصبح زعيماً للمدينة بموجب الصحيفة؛ وبلغ الرسول غدرهم وخيانتهم، فلما انتهت الغزوة جهز أصحابه وتوجه إلى بني النضير لمعاقبتهم على خيانتهم الوطنية ونكثهم لصحيفة المدينة. وحتى يجري التفريق ما بين يهودي تعامل مع الخارج وآخر لم يتعامل، قال ﷺ لأصحابه: إنّا غادون إلى بني النضير فلا تبدؤوهم بالسلام. (رواه أحمد).
إلقاء السلام عند العرب كان عهداً يلتزم به مَنْ يلقيه ليؤكد أنه على العهد لا يغدر ولا يخون؛ وحينما يطالب النبي أصحابه بذلك حتى يجري التفريق بين من غدر وخان ومن بقي على العهد، وهذا يعني أن مَنْ يبدأ المسلمين القادمين من بني النضير فهو ليس من ذلك الفريق الخائن.
2ـ الحديث له تاريخانيته المتعلقة بحدث محدد بواقعة معينة؛ ولا يدعو المسلمين إلى جعله سُنة مع الآخرين في كل زمان ومكان، لأن ذلك يخالف أصول القرآن الكريم ولا يتناسب مع أخلاق النبوة في الدعوة لأسباب سنبينها لاحقاً.
3ـ الحديث ذاته يتعارض مع عموم الهدي القرآني؛ فليس كل مَنْ هو غير مؤمن نحن ممنوعون من مبادرته بالسلام؛ حتى ولو كان غير مؤمن بديننا وهذا ما بينته آيات كثيرة منها:
أـ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً.(النساء:94).
وهذه الآية واضحة في دلالتها ومخالفتها لمن جعل الحديث المذكور سنة يجب العمل بها.
ب ـ في حوار إبراهيم عليه السلام مع أبيه المشرك بيّن أنه على الرغم من كفر والده وشركه ألقى عليه السلام:
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً.(مريم:47)
ج ـ في حوارية النبي مع اليهود ودعوتهم إلى الإسلام بين أن مَنْ آمن ورأى من الآخر إعراضاً ولغواً يتركه وشأنه ويلقي عليه السلام:
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ.(القصص:55)
د ـ ابن عيينة قال يجوز ابتداء الكافر بالسلام لقوله تعالى:
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ.(الممتحنة:8).
4ـ سُنة النبي كانت بعكس هذا الحديث فقد طالب أصحابه بإفشاء السلام في الناس جميعاً بغض النظر عن اعتقادهم؛ وهذا ثابت بلا خلاف فيه ﷺ فعندما سئل: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.(البخاري ومسلم)
وعن أبي أمامة: أن ﷺ كان لا يمر بمسلم ولا يهودي ولا نصراني إلا بدأه بالسلام.(ابن ماجه).
وكذلك ما ورد عن الصحابة: أمرنا ﷺ بسبع…. وإفشاء السلام.(البخاري ومسلم).
كما ثبت أن ابن عباس كان إذا كتب لأهل الكتاب يفتتحه بالسلام عليك، وذكر ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه.
5ـ القول بهذا الحديث إنه سُنة تأخذ فعل الديمومة لا التاريخية؛ والحكم على أجيال من أهل الكتاب بعدم الثقة فيهم؛ يؤدي إلى القطيعة بين أبناء المجتمع الواحد وهو بذلك يخالف أصلاً مهماً من أصول القرآن في آية تكررت خمس مرات:
وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.(سور:الأنعام والإسراء وفاطر والزمر والنجم).
ومن ثم يسقط مفهوم ديمومة العمل بهذا الحديث وجعله سُنة دائمة.
6ـ هذا الحديث يخالف ثقافة التشاركية التي يدعو إليها القرآن الكريم بدليل قطعي الثبوت وقطعي الدلالة من خلال قوله:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.(الحجرات:13)
ويؤسس لثقافة القطيعة المعطلة لدورة الإنتاج والعمل والتنمية والحضارة.
7ـ هذا السلوك فيه أذى لغير المسلم في المجتمع ويؤدي إلى مآلات اجتماعية خطرة أولها عدم الثقة بين أبناء المجتمع الواحد.
8ـ ما علاقة المسيحيين (النصارى) بهذا الحديث وهذه الواقعة، فالثابت أن الحديث متعلق بواقعة غدر بني النضير؛ ولم يكن النصارى موجودين في المدينة، وإقحامهم في الحديث عائد إلى ثقافة السلة الواحدة المرفوضة قرآنياً ودينياً وأخلاقياً. ومن ثم إدراج كلمة (النصارى) في متن الحديث ليس صحيحاً ولا مقبولاً.
9ـ في الحديث اضطراب في متنه إذ إن لفظه اختلف من راٍو إلى آخر، ففي رواية مسلم عن أبي هريرة ورد لفظ (اليهود والنصارى) في حين أورده البخاري في الأدب المفرد بلفظ (اليهود) من دون أي ذكر للنصارى، أما في رواية عبد الرزاق في مصنفه فقد اختلفت العبارة تماماً إذ ذكر (المشركين) من دون ذكر لليهود أو النصارى، وفي رواية ابن حبان في صحيحه ذكر (أهل الكتاب) ومرة بقوله (لا تبدؤوا) وفي كتاب الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (لا تبادروا) وهناك لفظ خامس (إذا رأيتم الكفّار) وهذا يدل على أن اللفظ غير متفق عليه؛ وبذلك فالحديث آحاد وهو ظني والرواية متخالفة وفيها ظن كبير واضطراب، فكيف نُقيم ثقافة سلوكية مع الآخر من خلال مسألة ظنية فيها خلاف وتخالف في الروايات.
9ـ احترم الرسول اليهود ما لم ينكثوا صحيفة المدينة؛ فكان يزور مريضهم؛ ويذهب إلى زيارة (مدراسهم الدينية)، وثبت أنه وقف احتراماً لجنازة يهودي مرت بجواره كما روى مسلم.
10ـ تغوّل شرّاح هذا الحديث ممن ظنوا صحته بإساءات إلى غير المسلمين لا تُقبل ديناً ولا أخلاقاً فمثلاً يقول ابن عثيمين (مجموع فتاوى ابن عثيمين:3/38): المعنى أنكم كما لا تبدؤونهم بالسلام لا تفسحوا لهم فإذا لقوكم فلا تتفرقوا حتى يعبروا بل استمروا على ما أنتم عليه واجعلوا الضيق عليهم إن كان في الطريق ضيق.
وليس في الحديث تنفير من الإسلام بل فيه إظهار لعزة المسلم، وأنه لا يذل لأحد إلا لربه عز وجل. فهل هذا الكلام مقبول؟.
وجاء عن مركز الفتوى (فتوى رقم:71173): قال المناوي في فيض القدير: فاضطروه إلى أضيقه. بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه نحو جدار أي لا تتركوا له صدر الطريق إكراماً واحتراماً، فهذه الجملة ملائمة للأولى في المعنى والعطف، وليس معناه كما قال القرطبي: إنا لو لقيناهم في طريق واحد نلجئهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم لأنه إيذاء بلا سبب. وهذا الحديث من المتشابه.
وذهب آخرون إلى أن المسلم لو سّلم على رجل ما وتبين له بعد سلامه أنه ليس مسلماً عليه أن يطلب ممن سلم عليه رد سلامه، إذ ذكروا عن معتمر: بلغني أن أبا هريرة مَرّ على يهودي فَسَلَّم، فقيل له: إنه يهودي. فقال: يا يهودي، ردّ عليّ سلامي، وأدعو لك. قال: قد رددته. قال: اللهم كثر مالَه وولده. (رواه ابن أبي شيبة). ومرّ ابنُ عمر بنصراني فسلَّم عليه، فَرَدّ عليه، فأُخْبِر أنه نصراني، فلما عَلِم رَجَع إليه قال: ردّ عليّ سلامي. (البخاري في “الأدب المفْرَد”). فهل هذا معقول؟.
حتى أن النووي في شرح مسلم ذكر كلاماً غريباً فقط لأن بعض الشافعية أكدوا العمل بهذا الحديث إذ قال: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ اِبْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ وَلَا يَحْرُمُ, وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ, فَالصَّوَابُ تَحْرِيمُ اِبْتِدَائِهِمْ.
11ـ ما يؤكد ضعف الحديث اختلاف الصحابة والتابعين والفقهاء في العمل به؛ وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه أنّ الحديث متعلق بواقعة معينة؛ لا تأخذ الامتداد الزماني والمكاني، إذ قال ابن القيم في زاد المعاد(2/424): وقد اختلف السَلَفُ والخَلَفُ في ذلك، فقال أكثرُهم: لا يُبدؤون بالسلام، وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يُردُّ عليهم، رُوي ذلك عن ابن عباس، وأبى أُمامة، وابْنِ مُحَيْرِيز، وهو وجه فى مذهب الشافعي، لكن صاحب هذا الوجه قال: يُقال له: السَّلامُ عَلَيْكَ، فقط من دونِ ذكر الرحمة، وبلفظ الإفراد، وقالت طائفة: يجوزُ الابتداءُ لِمصلحة راجحة مِن حاجة تكون له إليه، أو خوف مِن أذاه، أو لِقرابةٍ بينهما، أو لِسببٍ يقتضِي ذلك، يُروى ذلك عن إبراهيم النَّخعي، وعلقمَة. وقال الأوزاعي: إن سلَّمْتَ، فقد سلَّمَ الصالحونَ، وإن تركتَ، فقد ترك الصَّالِحون. واختلفوا في وجوب الرد عليهم، فالجمهورُ على وجوبه، وهو الصوابُ، وقالت طائفة: لا يجبُ الردُّ عليهم، كما لا يجبُ على أهل البدع وأولى، والصواب الأول، والفرق أنَّا مأمورون بهجر أهلِ البدع تعزيراً لهم، وتحذيراً منهم، بخلاف أهل الذمة.
12 ـ خالف المالكية الحديث وردوه ولم يعملوا به كما نُقل عن الإمام مالك والقاضي عياض.
13ـ في الغرب حيث يعيش المسلمون بوصفهم أقليات نجد بأن السلام ابتداءً هو ما يفعله الغربي متى ما لاقاك يحييك مبتسماً؛ فهل هم من أخذ بسنة رسول الله التي تقول: تبسمك بوجه أخيك صدقة. وقوله: أفشوا السلام.
ونحن من تركها باتجاه ثقافة القطيعة وازدراء الآخر؟.
14ـ حتى لو كان الحديث مقصوداً به اليهود فإنهم أصحاب تلك الواقعة؛ والقرآن الكريم لا يقبل بثقافة السلة الواحدة فيمدح صالحيهم إذ يقول عنهم:
لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.(آل عمران:113).
ويؤكد رفضه لثقافة السلة الواحدة خلال حديثه عن اليهود:
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير.(فاطر:32).
وبيّن أن منهم الأمين ومنهم ما دون ذلك إذ قال:
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.(آل عمران:75).
مناقشة سند الحديث
تكلم علماء الحديث في سند الحديث، وأكدوا أن فيه علة واضحة، إذ إن راوي الحديث هو سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وقد تفرد بإدراج (النصارى) في متن الحديث. كما تكلم علماء الحديث في سهيل؛ فقد ذكر ابن حجر في مقدمة فتح الباري (ص:408): أن البخاري قال عنه: ساء حفظه. ولم يحتج بروايته. وقال آخرون لا يحتج بحديثه.
2ـ تجنب النسائي تخريج هذا الحديث مع احتجاجه بسهيل، ولم يبوب البخاري في صحيحه ترجمة في النهي عن ابتداء المشركين أو أهل الكتاب بالسلام، وكأنه لم يصحّ عنده فيها شيء على شرطه، ما يدل على علة في سند الحديث ومتنه كما بينّا آنفاً.
3ـ أكد الدار قطني في كتاب (العلل:10/179) أن حديث سهيل هذا فيه اضطراب.
4ـ أورد ابن عدي في كتابه (الكامل في الضعفاء:3/449) وهو مرجع لعلماء الحديث: أن سهيلاً تفرد بهذا اللفظ (النصارى) وله مناكير.
5ـ ذكر ابن عدي في كتابه المذكور(10/162) أن سهيلاً هذا روى عن أبي هريرة أحاديث فيها غرائب كمنع المرأة من السفر فوق ثلاث ليال إلا بمحرم؛ وقتل الوزغ؛ وفرخ الزنا لا يدخل الجنة وغيرها.
6ـ الحاكم في صحيحه عاب على مسلم إخراجه لهذا الحديث في صحيحه.
وختـــــــــــــــــــاماً
عملاً بالقاعدة الفقهية أن البيان واجب أجريتُ هذا البحث؛ إذ من واجبي بيان الخلل خصوصاً أنه أساء إلى ديني ورسولي والإنسان الذي كرّمه الله، ولأن القاعدة الفقهية تقول: الضرر يُزال. فإن مثل هذا الحديث فيه ضرر اجتماعي ودعوي وإنساني وأخلاقي.
والأوطان والمجتمعات تبنى على الثقة في ما بين مكوناتها على اختلاف اعتقاداتهم وأيديولوجياتهم؛ ووجود مثل هذه النصوص لا يؤسس لهذه الثقة؛ وأن الدولة المعاصرة على الرغم من حيادتيها فهي تُبنى على مفهوم المواطنة أي الحقوق الكاملة غير المنقوصة، وأن هناك نصوصاً قيلت لوضع محدد ومعين؛ لا يجوز استحضارها في زمن آخر ومكان آخر؛ لما في ذلك من خلل وإساءة إلى الإنسان الذي كرمه الله ودعا إلى تكريمه بغض النظر عن دينه وعرقه ولونه حين قال:
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً.(الإسراء:70).
ويبقى التكريم الإلهي مطلوباً منا مادام هذا الإنسان ليس فاسداً ولا مفسداً.
إن النصوص الدينية ثابتة، ووقائع الحياة متبدلة، ومقابلة الثابت بالمتبدل، ستؤدي إلى اضطرابات كثيرة اجتماعياً واقتصادياً وسلوكياً، وليس أمامنا إلا أن نحرك الثابت أو نثبت المتحول، وما دام تثبيت المتحول والمتبدل مستحيلاً؛ لا بد من الاجتهاد في الثابت، لتحقيق العدل الذي هو روح النص وعلته.
ومخالفة نص ما لتحقيق العدل؛ أرقى دينياً وأخلاقياً وإنسانياً من إيقاع الظلم بذريعة الالتزام بالنص، وهذه قيمة سماوية الأخلاق؛ تخالف رؤية مَنْ يرى أنّ نصاً ما على علته يجب التمسك به والعمل استناداً إليه؛ حتى لو خالف تلك القيمة الإنسانية الأخلاقية وهدي السماء.
والله أعلم وهو من وراء القصد.